get pregnant

الأحد، 15 نوفمبر 2015

شاهد المقال

دروس باك حر آداب الفلسفة

 مجزوءة الوضع البشري


مفهوم الشخص

الطرح الإشكالي
إن الحديث عن الشخص هو حديث عن الذات أو الأنا، والشخص هو مجموع السمات المميزة للفرد الذي هو في الأصل كيان نفسي واجتماعي متشابه مع الآخرين، ومتميز عنهم في نفس الوقت. لكن هويته ليست معطى جاهزا، بل هي خلاصة تفاعل عدة عناصر فيها ما هو بيولوجي، وما هو نفسي، وما هو اجتماعي… وهذا ما يجعلنا نطرح إشكال الشخص على شكل أسئلة فلسفية وهي
فيما تتمثل هوية الشخص؟
أين تكمن قيمته؟
هل الشخص حر في تصرفاته؟ أم يخضع لضرورات حتمية؟
أولا: الشخص والهوية
أ- الهوية والشعور
تتمثل هوية الشخص – في نظر جون لوك – في كونه كائنا عاقلا قادرا على التفكير والتأمل بواسطةالشعور الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة، حيث لا يمكن الفصل بين الشعور والفكر، لأن الكائن البشري لا يمكن أن يعرف أنه يفكر إلا إذا شعر أنه يفكر. وكلما امتد هذا الشعور ليصل إلى الأفعال والأفكار الماضية، اتسعت وامتدت هوية الشخص لتشمل الذاكرة، لأن الفعل الماضي صدر عن الذات نفسها التي تدركه في الحاضر
إن هذا الشعور، حسب لوك، هو الذي يشكل الهوية الشخصية للفرد التي تجعله يشعر أنه هو هو لا يتغير، كما تجعله يشعر باختلافه عن الآخرين
ب- الهوية والإرادة
يلاحظ آرثر شوبنهاور، أن الفرد يكبر ويشيخ، لكنه يحس في أعماقه أنه لازال هو هو كما كان في شبابه وحتى في طفولته. هذا العنصر الثابت هو الذي يشكل هوية الشخص. إلا أن شوبنهاور لا يرجع أصل الهوية إلى
الجسم : لأن هذا الأخير يتغير عبر السنين، سواء على مستوى مادته أو صورته، في حين أن الهوية ثابتة
الشعور بالذاكرة والماضي: لأن الكثير من الأحداث الماضية للفرد يطويها النسيان. كما أن إصابة في المخ قد تحرمه من الذاكرة بشكل كلي، ومع ذلك فهو لا يفقد هويته
العقل والتفكير: لأنه ليس إلا وظيفة بسيطة للمخ
إن هوية الشخص – في تصور شوبنهاور – تتمثل في الإرادة، أي في أن نريد أو لا نريد
ثانيا: قيمة الشخص
أ- قيمة الشخص في ذاته
إن الكائنات العاقلة (الأشخاص) – في تصور إيمانويل كانط – لها قيمة مطلقة، باعتبارها غاية في حد ذاتها، وليست مجرد وسيلة لغايات أخرى. في مقابل الموضوعات غير العاقلة (الأشياء) التي ليست لها إلا قيمة نسبية، قيمة مشروطة بميولات وحاجات الإنسان لها، حيث لو لم تكن هذه الميولات والحاجات موجودة، لكانت تلك الموضوعات بدون قيمة. إن لها قيمة الوسائل فقط
وهذا ما يحتم على الشخص، حسب كانط، الالتزام بمبدأ عقلي أخلاقي عملي هو: إن الطبيعة العاقلة (الشخص) توجد كغاية في ذاتها
ب– قيمة الشخص والجماعة
إن فكرة استقلال الذات المفكرة والشخص الأخلاقي، وكما تمت صياغتها من طرف الفلاسفة (ديكارت، كانط..)، لم تتحقق في الفكر الإنساني إلا في وقت متأخر، في نظر جورج غوسدورف. لكن بالرجوع إلى بداية الوجود الإنساني، وكما عاشها الناس فعليا، فإننا نجد الفرد كان يعيش ضمن الجماعة من خلال أشكال التضامن البسيطة والأساسية (الأسرة ، العشيرة، القبيلة..) التي سمحت لهذه الجماعة بالبقاء
إن قيمة الشخص إذن لا تتحدد في مجال الوجود الفردي، حسب غوسدورف. ولكن في مجال التعايش داخل المجموعة البشرية
ثالثا: الشخص بين الضرورة والحرية
أ– الشخص والضرورة
لقد أقر سيغموند فرويد للأنا بوجود مستقل، كأحد مكونات الجهاز النفسي للشخصية، وله نشاط شعوري يتمثل في الإدراك الحسي الخارجي والإدراك الحسي الداخلي، والعمليات الفكرية. ويضطر للخضوع لثلاث ضغوطات متناقضة، وهي الهو الذي يتمثل في الدوافع الفطرية والغريزية. والأنا الأعلى الذي يتجلى في الممنوعات الصادرة عن المثل الأخلاقية، والعقاب الذي تمارسه بواسطة تأنيب الضمير. إضافة، إلى الحواجز التي يضعها العالم الخارجي والاجتماعي
إن الأنا يخضع، حسب فرويد، لضرورات الهو، والأنا الأعلى، والعالم الخارجي
ب– الشخص والحرية
إن الإنسان – حسب ج.ب. سارتر – يوجد أولا، أي ينبثق في هذا العالم، ثم يتحدد بعد ذلك وفق ما سيصنع بنفسه، وكما يريد أن يكون في المستقبل. إن الإنسان مشروع يعاش بكيفية ذاتية. هذا الكائن المادي يتجاوز دائما الوضعية التي يوجد فيها، ويحددها، وذلك بالتعالي عليها لكي يتموضع بواسطة الشغل أو الفعل أو الحركة في إحدى الإمكانات المتاحة أمامه. وبما أن هذه الوثبة تتخذ أشكالا متنوعة بحسب الأفراد، فإننا نسميها كذلك اختيارا وحرية
إن الشخص، في نظر سارتر، يتمثل قي قدرته على الحرية في الاختيار
استنتاجات عامة
إن هوية الشخص ليست معطى بسيطا، بل هي عنصرا مركبا يتشكل من مجموع السمات التي تميز ذات الإنسان، والتي تتجلى في الخصائص الجوهرية والثابتة فيه كالعقل، والشعور، والإرادة
إن قيمة الشخص ذات طبيعة مزدوجة، فهي قيمة تمسه كفرد يمتلك كرامة تلزمنا أن نتعامل معه كغاية في ذاته. كما تمسه كعنصر داخل الجماعة ما دامت الجماعة هي التي تمنح الفرد قيمته
إن الشخص يخضع لمجموعة من الشروط التي تتحكم في أفعاله وتصرفاته، لكنه في نفس الوقت يمتلك هامشا من الحرية، يستطيع من خلاله أن يعدّل، إن لم نقل يغير تلك الشروط


مفهوم الغير


الطرح الإشكالي
إن مفهوم الغير من المفاهيم الفلسفية الحديثة التي لم تحتل مركز الصدارة إلا مع فلسفة هيغل، بعدما كان كل اهتمام التفكير الفلسفي يتمحور حول الذات، وبما أن الذات قد تنتج أفكارا خاطئة حول موضوعات خارجية نتيجة خداع الحواس، فإن هذا الأمر قد يدفع إلى الشك في الغير، ووضع وجوده بين قوسين. مما يترتب عن ذلك أن إنتاج معرفة حول الغير تتميز بالاختلاف، بل احتمال عدم إنتاجها أصلا. إضافة إلى تعدد وتنوع العلاقة التي تربطنا به، وهذا ما يمكن التعبير عنه بواسطة الأسئلة الآتية
هل الغير موجود أم لا؟
هل معرفة الغير ممكنة؟ وإن كانت كذلك، كيف يمكن أن نبني هذه المعرفة؟
ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالغير؟
أولا: وجود الغير
أ– وجود الغير والصراع
يكون وعي الذات وجودا بسيطا لذاته – حسب فريدريك هيغل – تقوم ماهيته في كونه أنا. غير أن الآخر هو أيضا وعي لذاته، باعتباره لا- أنا. هكذا تنبثق ذات أمام ذات، يكون كل واحد بالنسبة للآخر عبارة عن موضوع. كل منهما متيقن من وجود ذاته، وليس متيقنا من وجود الآخر. لكن مازال لم يقدم بعد أحدهما نفسه للآخر. تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها أمام الآخر، في إظهار أنها ليست متشبثة بالحياة، وهي نفس العملية التي يقوم بها الآخر، حينما يسعى إلى موت الآخر، أي الأنا
إن وجود الغير بالنسبة للأنا – في تصور هيغل – يتم بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت، لأن على كل منهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاته، وبالنسبة للآخر
ب– وجود الغير ووجود الذات
إن الموجود- هنا، باعتباره وجودا فرديا خاصا، لا يكون مطابقا لذاته – في نظر مارتن هايدغر – عندما يوجد على نمط الوجود- مع- الغير. فهذا الوجود- المشترك يذيب كليا الموجود- هنا، الذي هو وجودي الخاص، في نمط وجود الغير، بحيث يجعل الآخرين يختفون ويفقدون ما يميزهم، وما ينفردون به. مما يسمح بسيطرة الضمير المبني للمجهول. هذا المجهول ليس شخصا متعينا، إنه لا أحد، كما أن بإمكان أي كان أن يمثله
إن وجود الغير- في تصور هايدغر- يهدد وجود الذات من خلال إذابتها وسط الآخرين، ووسط المجهول
ثانيا: معرفة الغير
ب– الغير والحميمية
إن حميميتي، أي حياتي الخاصة، هي عائق أمام كل تواصل مع الغير- يقول غاستون بيرجي- حيث تجعلني سجين ذاتي. فالتجربة الذاتية وحدها هي الوجود الحقيقي بالنسبة لي، وهي تجربة غير قابلة للنقل إلى الآخر. فأنا أعيش وحيدا وأشعر بالعزلة. كما أن عالم الغير منغلق أمامي بقدر انغلاق عالمي أمامه. فعندما يتألم الغير، يمكنني مساعدته، ومواساته ومحاولة تخفيف الألم الذي يمزقه غير أن ألمه يبقى رغم ذلك. ألما خارجيا بالنسبة لذاتي، فتجربة الألم تظل تجربته الشخصية، وليست تجربتي
وهكذا تتعذر معرفة الغير- في نظر بيرجي- مادام الإنسان كائنا سجينا في آلامه، ومنعزلا في لذّاته، ووحيدا في موته، محكوما عليه بأن لا يشبع أبدا رغبته في التواصل

أ– الغير بنية
إن الغير ليس فردا مشخصا بعينه – حسب جيل دولوز- بل هو بنية أو نظام العلاقات والتفاعلات بين الذوات والأشخاص. يتجلى هذا النظام في المجال الإدراكي الحسي، مثلا فأنا حين أدرك الأشياء المحيطة بي، لا أدركها كلها ومن جميع جهاتها وجوانبها وباستمرار. وهذا يفترض أن يكون ثمة آخرون يدركون مالا أدركه من الأشياء، وفي الوقت الذي لا أدركه، وإلا بدت الأشياء وكأنها تنعدم حين لا أدركها وتعود إلى الوجود حين أدركها مجددا. وإذا كان هذا مستحيلا، فإن الغير إذن يشاركني إدراك الأشياء، ويكمل إدراكي لها
وهكذا يجرد دولوز الغير من معناه الفردي المشخص، ويضمنه معنى بنيويا
ثالثا: العلاقة مع الغير
أ- علاقة الصداقة
إن الصداقة باعتبارها مثالا، هي اتحاد شخصين يتبادلان نفس مشاعر الحب والاحترام، في نظرإيمانويل كانط. وغاية هذا المثال هو تحقيق الخير للصديقين الذين جمعت بينهما إرادة طيبة، يتولد عن مشاعر الحب تجاذب بين الصديقين، في حين يتولد عن مشاعر الاحترام تباعد بينهما. إذا تناولنا الصداقة من جانبها الأخلاقي، فواجب الصديق تنبيه صديقه إلى أخطائه متى ارتكابها، لأن الأول يقوم بهذا التنبيه لأجل خير الثاني،وهذا واجب حب الأول للثاني. بينما تشكل أخطاء الثاني تجاه الصديق الأول إخلالا بمبدأ الاحترام بينهما
لا يجب إذن أن تقوم الصداقة- حسب كانط- على منافع مباشرة ومتبادلة، بل يجب أن تقوم على أساس أخلاقي خالص
ب- علاقة الغرابة
لقد رفضت جوليا كريستيفا المعنى اليوناني القديم لمفهوم الغريب المرتبط بالآخر، الذي نكن له مشاعر الحقد باعتباره ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة، أو ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى المجتمع. إن الغريب في نظرها يسكننا على نحو غريب. ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا، نستبعد أن نبغضه في ذاته. إن الغريب يبدأ عندما ينشأ لديّ- تقول كريستيفا- الوعي باختلافي، وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا وندرك أننا غرباء متمردون على الروابط والجماعات
كما انتقدت كريستيفا الدلالة الحقوقية المعاصرة للغريب التي تطلق على من لا يتمتع بمواطنة البلد الذي يقطنه، لأنها تسكت عن وضعية المختلف التي يتخذها الإنسان داخل جماعة بشرية تنغلق على نفسها مقصية المخالفين لها
استنتاجات عامة
هناك فرق بين الآخر والغير، فإذا كان الآخر هو ذلك الكائن المادي الذي يتميز بوجود واقعي إلى جانب أو في مقابل الذات، فإن الغير مفهوم فلسفي نظري يتضمن الخصائص المجردة للآخر
إن مفهوم الغير، مفهوم يتضمن معرفة متناقضة حول الآخر. فتارة يحدده كأنا آخر باعتباره متطابقا مع الذات، وطورا يحدده باعتباره لا- أنا مركزا على مظاهر التناقض مع الذات
إن العلاقة مع الغير في الحقيقة هي علاقة بصيغة الجمع، تتميز بالتعدد والتنوع. تبدأ بعلاقة الحب والاحترام والصداقة، مرورا بعلاقة الغرابة والقرابة… وتنتهي مع علاقة الصراع والتنافس والعداوة


مفهوم التاريخ

الطرح ا|لإشكالي
إن الإنسان ليس كائنا ميتافيزيقيا يتعالى عن العالم المادي الملموس، بل إنه كائن تاريخي، كائن يتطور في الزمان والمكان، ويخضع لمجموعة من الشروط الموضوعية: اقتصادية، اجتماعية، سياسية… وهذا هو ما يسمى: التاريخ. الذي يثير قضايا فلسفية حول المعرفة التاريخية باعتبارها معرفة حول الماضي، لكنها في نفس الوقت لا يمكن أن تنفصل عن الحاضر بل والمستقبل. ومن بين المفاهيم المركزية في علم التاريخ نجد مفهوم التقدم الذي يختلف المؤرخون حول المسارات التي يتخذها. وأخيرا الدور المعقد الذي يتخذه الفاعل الأساسي في التاريخ، أي الإنسان. وهي قضايا يمكن صياغتها من خلال الأسئلة الموالية وهي
ما هي المعرفة التاريخية؟
هل للتقدم مسار واحد؟ أم مسارات متعددة؟
من الذي يتحكم في الآخر؟ الإنسان أم التاريخ؟
أولا: المعرفة التاريخية
أ- التاريخ معرفة للماضي
إننا نعيش في مجتمع معين، ونحافظ على آثار ما كان موجودا من قبل. نحفظ الوثائق ونصون الآثار ونرممها، ويمكننا، انطلاقا من هذه الآثار، حسب ريمون أرون، إعادة بناء ما عاشه الذين سبقونا بهذا القدر أو ذاك. وبهذا المعنى، تصبح المعرفة التاريخية هي إعادة بناء ما كان موجودا ولم يعد كأثر، غير أنها عملية تخص زمانا ومكانا محددين، ولا تخص إعادة بناء مجردة للماضي
ب- التاريخ معرفة علمية
إن فهم الماضي من خلال الآثار والوثائق هو في جوهره ملاحظة، والملاحظة- في نظر بول ريكور – ليست تسجيلا وتدوينا للوقائع بشكلها الخام. إنها إعادة تكوين حدث ما، أو سلسلة من الأحداث، أو وضعية، أو مؤسسة، انطلاقا من الوثائق بعد أن خضعت للمساءلة، وثم استنطاقها من طرف المؤرخ. وهذا العمل المنهجي هو الذي يجعل الأثر التاريخي وثيقة دالة، ويجعل من الماضي واقعا تاريخيا أو حدثا تاريخيا
وهكذا يتمكن المؤرخ- حسب ريكور- معتمدا على الوثائق، ومنطلقا من الملاحظة المنهجية، من بناء الوقائع التاريخية
ثانيا: التاريخ وفكرة التقدم
أ- المسار الحتمي للتقدم
يدخل الناس، بمناسبة الإنتاج الاجتماعي لشروط وجودهم، في علاقات محددة وضرورية مستقلة عن إرادتهم، حسب كارل ماركس. وتعكس علاقات الإنتاج درجة تطور قوى الإنتاج المادي. وتشكل مجموع علاقات الإنتاج، البنية التحتية والاقتصادية للمجتمع، والأساس الملموس الذي تقوم عليه البنية الفوقية التي تقابلها أشكال الوعي الاجتماعية. إن نمط إنتاج الحياة المادية يشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية و الفكرية عموما. وفي مرحلة معينة من تطور قوى الإنتاج المادية للمجتمع تدخل هذه الأخيرة في تناقض مع علاقات الإنتاج لتبدأ مرحلة الثورات الاجتماعية، يمكن تصنيف أنماط الإنتاج: العبودي، الفيودالي، والرأسمالي بأنها عصور وحقب متدرجة للتركيبة الاجتماعية- الاقتصادية. فعلاقات الإنتاج التي تميز نمط الإنتاج الرأسمالي هي آخر نمط إنتاج متناقض في سيرورة الإنتاج الاجتماعي، ومع هذه التشكيلة الاجتماعية الأخيرة، ينتهي ما قبل تاريخ المجتمع البشري، حسب التصور الماركسي
ب- إمكانيات التقدم التاريخي
لقد اعترض موريس ميرلوبونتي على كل تصور آلي منغلق يخضع للضرورة، يجعل التاريخ يتقدم نحو اتجاه محدد مسبقا. لهذا حافظ ميرلوبونتي على مسافة نقدية مع التصور الماركسي، حيث يمكن للنمو الاقتصادي مثلا أن يكون متقدما على النمو الإيديولوجي، أو يمكن للنضج الإيديولوجي أن يحدث فجأة دون أن تتهيأ الشروط الموضوعية لذلك، أو عندما لا تكون الشروط مساعدة على الثورة، إننا حين نتخلى بصفة نهائية عن التصور الحتمي، لصالح تصور عقلاني للتاريخ، لا يصبح منطق التاريخ غير إمكانية ضمن إمكانات أخرى
ثالثا: دور الإنسان في التاريخ
أ- التاريخ والروح المطلقة
إن سيرورة التاريخ في- في نظر فريديريك هيغل- محكومة بالروح المطلقة، من خلال أعمال العظماء والأبطال الذين يدركون جوهر هذه الروح، حيث يعملون على إخراجها من الخفاء إلى الظاهر عندما يحققونها في التاريخ حسب منطق التطور، وهذا ما يدفع الناس إلى التحلق حول العظماء لأنهم يعرفون أن هؤلاء الشخصيات تمثل الاتجاه العميق للتاريخ، لأن أفعالهم وخطاباتهم هي أحسن ما يتوفر عليه عصرهم. ثم يتخلى عنهم التاريخ بعد أن يحقق ذاته من خلالهم، إما يموتون شبابا كالإسكندر الأكبر، أو يقتلون كالقيصر، أو ينفون كنابليون
إن دور الإنسان في التاريخ من خلال ما ينجزه العظماء- حسب هيغل- يتمثل في كونهم مجرد وسائل لتحقيق وتجسيد الروح المطلقة
ب- الإنسان صانع لتاريخه
إن الإنسان- حسب ج. ب. سارتر- يتميز بقدرته على تجاوز وضعه لأنه يستطيع أن يفعل شيئا بما يُفْعَلُ به. إن هذه القدرة على التجاوز هي أساس كل ما هو إنساني، وهو ما نسميه المشروع، الذي هو نفي وإبداع: أي نفي ما هو معطى بواسطة الممارسة والفعل، وإبداع أو بناء موضوع لم يظهر مكتملا بعد، ولا يتصور أحد هذا التجاوز لما هو معطى إلا في إطار علاقة الإنسان بممكناته. إن حقل الممكنات هو الهدف الذي يقصده الإنسان لتجاوز وضعيته
إن الفرد- بالنسبة لسارتر- يصنع التاريخ عندما يتجاوز وضعيته نحو حقل ممكناته، من خلال تحقيق إحداهما
استنتاجات عامة
إن التاريخ في عمقه هو علم يتخذ من دراسة الماضي موضوعا له، إلا أن دراسة الماضي ليست غاية في ذاتها، بل هي عملية بتم من خلالها التعرف على تجارب الماضي وذلك قصد عدم تكرار الإخفاقات، واستثمار التجارب الناجحة لبناء المستقبل
إن التاريخ يخضع لقانون التقدم، رغم بعض التقطعات، ولحظات التراجع الطارئة، إلا أن هذا التطور لا يتخذ خطا واحدا من المفروض على كل المجتمعات أن تلتزم به، بل إنه يتحقق بطرق متعددة ومتنوعة حسب خصوصية كل مجتمع
إن هناك علاقة جدلية بين الإنسان والتاريخ باعتبار أن الإنسان كائن تاريخي، كما أن التاريخ معطى إنساني، وهكذا فالإنسان يصنع تاريخه بقدر ما يصنع التاريخ الإنسان


مجزوءة المعرفة



مفهوم الحقيقة


الطرح الإشكالي
يعتبر مفهوم الحقيقة المفهوم المحوري في التفكير الفلسفي، ما دامت الفلسفة قد ظهرت في أول أمرها كبحث عن الحقيقة، ويمكن ملاحظة ذلك حتى على مستوى اسمها: « محبة الحكمة »، فليس للحكمة معنى آخر سوى الحقيقة. وهو مفهوم يثير قضايا فلسفية تتمثل في العلاقة الإشكالية التي تربط الرأي بالحقيقة، إضافة إلى تعدد معايير الحقيقة وتنوعها. وأخيرا تناقض التصورات الفلسفية حول قيمة الحقيقة، وهذا ما يمكن التعبير عنه بهذه الأسئلة
ما طبيعة العلاقة التي تربط الحقيقة بالرأي؟
ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها لتمييز الحقيقة عن غيرها من الأوهام والأفكار الظنية أو الخاطئة؟
هل الحقيقة غاية في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لتحقيق غايات أخرى؟
أولا: الحقيقة والرأي
أ- التطابق بين الحقيقة والرأي
لا فرق في الطبيعة- في نظر ماكس بلانك- بين الاستدلال العلمي والاستدلال العادي اليومي (الرأي)، وإنما الفرق بينهما في درجة النقاء والدقة. وهذا الاختلاف شبيه، شيئا ما، بالاختلاف بين المجهر والعين المجردة. إن التمثل الذي يقدمه العلم عن العالَم لا يختلف في الطبيعة عن التمثل الذي تقدمه عنه الحياة اليومية، وإنما يختلف عنه في رهافة بنيته ودقتها. إن نسبة ذلك التمثل بالنسبة للعالَم إلى تمثله السائد في الحياة اليومية، هو كنسبة تمثل الراشد للعالَم إلى تمثل الطفل له
وما يوضح حقيقة هذا الحكم- حسب بلانك- هو أن الأمر هنا يتعلق بصورة من صور المنطق. فالمنطق العلمي ليس في وسعه أن يستنبط من مقدمات معطاة، شيئا مغايرا لما يستطيع منطق الحس المشترك العادي أن يستنبطه
ب- التقابل بين الرأي والحقيقة
إن الرأي من الناحية النظرية، دائما على خطأ- في نظر غاستون باشلار- لأنه لا يفكر ما دام يعمل فقط على ترجمة حاجات الإنسان ورغباته إلى معارف، ويعين الأشياء حسب فائدتها. وهكذا يمتنع عن معرفتها حقا. فلا يمكن تأسيس أي معرفة على أساس الرأي، بل ينبغي هدمه، لأنه أول عائق يلزمنا تخطيه لبناء الحقيقة العلمية التي تنبني على أساس البداهة العقلية. إن شرط الفكر العلمي الأساسي هو أن نعرف كيف نطرح المشاكل، لأن المعرفة بالنسبة للفكر العلمي هي جواب عن سؤال، وإن لم يكن ثمة سؤال، فمن غير الممكن قيام أية معرفة علمية
لا شيء يُعطى، حسب باشلار، بل الحقيقة العلمية تُبنى وتُشيد
ثانيا: معايير الحقيقة
أ- معياري: الحدس والاستنباط
إن المعايير التي نتمكن بواسطة من الوصول إلى حقيقة الأشياء دون الخوف من الوقوع في الخطأ- في نظر رونيه ديكارت- هما اثنان فقط: الحدس والاستنباط
الحدس: هو إدراك عقلي مباشر لموضوع المعرفة، حيث ينتج العقل الحقائق البديهية، أي كل فكرة بسيطة واضحة بذاتها، ولا تحتاج لبرهان، تصدر عن نور العقل كذهن خالص ويقظ. وهكذا يمكن لكل واحد أن يدرك بالحدس أنه يفكر، وأنه موجود
الاستنباط: ونقصد به كل ما يتم استنتاجه بالضرورة من قضايا أخرى، معلومة من قبل بنوع من اليقين. أي استخراج نتيجة ضرورية كانت مجهولة، من مقدمات يقينية معلومة. والاستنباط عملية متتالية، تتسلسل فيها القضايا بشكل يقيني، كل واحدة منها مرتبطة بسابقاتها
ب- الحقيقة معيار ذاتها
من له فكرة صادقة- في نظر باروخ اسبينوزا- يعرف في الوقت نفسه أن له فكرة صادقة ولا يمكن أن يشك في حقيقة معرفته. ذلك أن كل من يملك فكرة صادقة لا يجهل أن الفكرة الصادقة تتضمن أعلى يقين. فأن تكون لدينا فكرة صادقة، لا يعني سوى معرفة شيء معرفة كاملة أو على أحسن ما يمكن. فليس هناك معيارا للحقيقة أشد وضوحا وبداهة من الحقيقة ذاتها باعتبارها فكرة صادقة. فمثلما يعرف النور بذاته، ويعرف به الظلام، كذلك الحقيقة، حسب اسبينوزا، هي معيار ذاتها ومعيار الكذب
ثالثا: الحقيقة بوصفها قيمة
أ- قيمة الحقيقة والمنفعة
إن امتلاك الحقيقة- في نظر وليم جيمس- يعني امتلاك أدوات ثمينة للعمل. إذ نعيش وسط وقائع تحتمل أن تكون مفيدة كما تحتمل أن تكون مضرة لنا إلى أقصى حد، وبالتالي فالحقيقة هي الأفكار التي تميز لنا الوقائع النافعة حتى نستفيد منها، عن الوقائع الضارة حتى نتجنب مساوئها. وهنا يظهر أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في ذاتها، بل مجرد وسيلة لإشباع حاجات الإنسان الحيوية
إن قيمة الحقيقة- بالنسبة للفلسفة البرغماتية- تتمثل بكل بساطة في ما هو مفيد لفكرنا وسلوكنا معا
ب- الحقيقة غاية في ذاتها
إن الواجب الأخلاقي هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع البشري، وهذا الواجب يقتضي- في نظر إيمانويل كانط- أن يتوخى المرء الصدق (قول الحقيقة) في كل تصريحاته وأقواله في جميع الظروف والملابسات بلا استثناء، ودون ربط قول الحقيقة لا بالمنفعة ولا بالمضرة. ويذهب كانط إلى حد اعتبار أن من يكذب على مجرمين يسألونه عما إذا كان صديقه الذي يتعقبونه ملتجأ في منزله، يكون قد ارتكب جريمة في حق الإنسانية جمعاء، لأن الكذب وإن جلب المنفعة للصديق. فإنه يكون قد أخل بالواجب الأخلاقي الذي هو أساس المجتمع البشري
إن قول الحقيقة- بالنسبة للفلسفة الأخلاقية- هو غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة، لدا لا يجب ربطه لا بالمنفعة ولا بالمضرة
استنتاجات عامة
هناك تقابل بين التصور الفلسفي التقليدي، والتصور الفلسفي المعاصر للحقيقة، فإذا كانت الحقيقة: واحدة، ثابتة، مطلقة، موضوعية، نظرية… في التصور الفلسفي التقليدي، فإنها: متعددة، متغيرة، نسبية، ذاتية، عملية… في التصور الفلسفي المعاصر
كون الحقيقة قيمة يعني أنها ما يرغب فيه الإنسان، ويفضله، ويتخذه مثلا أعلى يسعى نحوه، سواء على مستوى الفكر النظري، أو على مستوى الممارسة العملية، أو على المستوى الأخلاقي.فالحقيقة إذن قيمة فكرية، وقيمة عملية، وقيمة أخلاقية
إن عملية البحث عن الحقيقة قد انطلقت منذ أن وعى الإنسان ذاته في هذا الوجود، لكننا لم نجدها لحد الآن. فكلما وجدنا الحقيقة واطمأنينا لها، إلا واكتشفنا بعد ذلك أنها خاطئة. أفلا يعني هذا أننا نبحث عن وهم؟ أي عن حقيقة غير موجودة أصلا؟


مفهومي النظرية والتجربة


الطرح الإشكالي
من المباحث الأساسية في الفلسفة المعاصرة نجد مبحث الإبستمولوجيا (الدراسة النقدية للمعرفة العلمية)، لقد ارتكز هذا المبحث على مجموعة من المفاهيم الفلسفية المرتبطة بالمجال العلمي وعلى رأسها مفهومي: النظرية والتجربة اللذان يطرحان عدة قضايا فلسفية سواء على مستوى النظرية أو على مستوى التجربة، أو على مستوى العلاقة بينهما. إضافة إلى تعدد المعايير لتمييز النظرية العلمية عن باقي أنواع النظريات الأخرى، وهي قضايا يمكن أن تتخذ شكل أسئلة فلسفية منها
ما هي شروط التجربة؟ وما هي خصائص النظرية؟
ما طبيعة العلاقة بينهما؟ وأي منهما يؤكد صحة الآخر؟
ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها لتمييز المعرفة العلمية؟
أولا: التجربة والتجريب
أ– خطوات المنهج التجريبي
إن المنهج التجريبي يفترض في العالِم – حسب كلود بيرنار – الإحاطة بشرطين
أن تكون لديه فكرة (فرضية) يخضعها للفحص في ضوء الوقائع
أن يلاحظ بساطة الظاهرة الماثلة أمامه، ملاحظة أكثر شمولية
على الملاحظ أن يكون بمثابة آلة تصوير، أثناء معاينته للظاهرة، تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة، حيث يجب أن يلاحظ بدون فكرة مسبقة
إن العالِم المتكامل هو الذي يجمع بين الفكري النظري والممارسة التجريبية عبر الخطوات التالية
يعاين واقعة ، أي الملاحظة
ميلاد فكرة (فرضية) في ذهنه تبعا للمعاينة
الاستدلال على الفكرة، بعد معاينتها ذهنيا، وذلك باللجوء إلى التجربة
تنتج عن التجربة ظواهر جديدة عليه أن يلاحظها، وهكذا دواليك
إن ذهن العالم – حسب بيرنار – يشتغل بين ملاحظتين، تمثل الملاحظة الأولى منطلق الاستدلال العلمي، وتمثل الملاحظة الثانية خلاصة الاستدلال ، أي التجربة
ب– التجريب العلمي
كثيرا ما تم الحديث عن التجربة التي شكلت إحدى السمات الأكثر تمييزا للعلم الكلاسيكي. غير أن في الأمر غموضا، بالنسبة لألكسندر كويري. فالتجربة بمعناها الخام والملاحظة العامية، لم تلعب أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، اللهم إلا دور العائق. أما التجريب، وهو المساءلة المنهجية للطبيعة، فيفترض افتراضا مسبقا اللغة التي يطرح من خلالها العالِم أسئلته، حيث يسائل الطبيعة بلغة رياضية ، أو بتعبير أدق بلغة هندسية، حسب كويري
ثانيا: العقلانية العلمية أو النظرية
أ– التجربة تـحدد النظرية
إن النظرية الفيزيائية يتم بناؤها – في تصور بيير دوهيم – من خلال أربع عمليات متتالية وهي
اختيار الخصائص الفيزيائية البسيطة، والتعبير عنها برموز رياضية، وأعداد، ومقادير
الربط بين هذه المقادير بواسطة عدد من القضايا التي تستخدم كمبادئ لاستنتاجاتنا، هذه المبادئ يطلق عليها اسم الفرضيات
تركيب فرضيات النظرية حسب قواعد التحليل الرياضي، وأن نستنبط منها نتائج ضرورية
إن النتائج التي استخرجناها من الفرضيات، هي التي تشكل النظرية الفيزيائية الجديدة
وهكذا فالنظرية الصحيحة – حسب دوهيم – هي التي تعبر بشكل مُرضي عن مجموعة من القوانين التجريبية، أما النظرية الخاطئة فهي التي لا تتوافق مع القوانين التجريبية
ب– النظرية تـحدد التجربة
إن نسقا كاملا للفيزياء النظرية يتكون من مبادئ وقوانين تربط بين تلك المبادئ، وقضايا مستنبطة منها بشكل ضروري بواسطة الاستنباط المنطقي. هذه النتائج هي التي يجب أن ترتبط بالتجربة. وهكذا حدد ألبير آينشتاين لكل من العقل والتجربة مكانتهما في نسق الفيزياء النظرية. فالعقل يمنح النسق بنيته. أما المعطيات التجريبية وعلاقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق القضايا الناتجة عن النظرية. إن البناء الرياضي الخالص، وليس التجربة ، هو الذي يمكننا من اكتشاف المبادئ والقوانين التي تسمح بفهم ظواهر الطبيعة
إذا كانت الوقائع التجريبية لا تتطابق مع النظرية، فينبغي تغيير الوقائع وليس النظرية حسب آينشتاين
ثالثا: معايير علمية النظريات العلمية
أ– معيار القابلية للتجريب
إن الواقعة التجريبية لا يمكن أن تكون علمية – في نظر رونيه طوم – إلا إذا استوفت شرطين هما
أن تكون قابلة لإعادة الصنع، وهذا يتطلب أن تكون محاضر إعداد التجربة وإجرائها دقيقة بما يكفي للتمكن من إعادتها في أزمنة وأمكنة أخرى
أن تثير اهتماما قد يكون تطبيقيا أو نظريا، يتمثل الاهتمام التطبيقي في الاستجابة لحاجيات بشرية. أما الاهتمام النظري فيعني أن البحث يدخل ضمن إشكالية علمية قائمة
في هذه الحالة، يكون الهدف من التجريب – حسب طوم – هو التحقق من صدق فرضية ما (نظرية) تتضمن قضايا عقلية يتم التسليم بوجودها، كالعلاقات السببية، أي الربط بين السبب والنتيجة
ب– معيار القابلية للتكذيب
أن القابلية للتكذيب (أو التفنيد) – في نظر كارل بوبر – هو معيار التمييز بين النظريات التجريبية والنظريات اللاتـجريبية، لذلك يطلق عليه كذلك معيار القابلية للاختبار. إن اختبار نظرية ما، يعني محاولة تبين العيب فيها، وبالتالي فإن النظرية التي نعرف مقدما أنه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها، لهي نظرية غير علمية لأنها نظرية غير قابلة للاختبار. إن نظرية نيوتن في الجاذبية، قابلة الاختبار، لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن المدارات الكوكبية عند كبلر، وهذا التنبؤ يمكن تفنيده. ونظرية آينشتاين في الجاذبية قابلة للاختبار كذلك، لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن المدارات الكوكبية عند نيوتن، وهذا التنبؤ يمكن تفنيده مجددا
استنتاجات عامة
إن العلاقة التي تربط النظرية بالتجربة، علاقة جدلية ( أي علاقة تأثير وتأثر ). فالنظرية تؤثر في التجربة من خلال تأطيرها وتوجيهها عندما تـحدد عناصر وتفاعلات التجربة. والتجربة تؤثر في النظرية من خلال تصحيحها، عندما تكتشف الأخطاء التي تتضمنها. وبذلك تتقدم النظرية. وهذا ما يجعل المعرفة العلمية، معرفة متطورة، تتطور بفعل هذا الجدل بين النظرية والتجربة


علمية العلوم الإنسانية


الطرح الإشكالي
إن كان العلم يستنبط قوانين ضرورية وحتمية في العلوم الدقيقة، فإن هذا الأمر يصبح متعذرا على مستوى العلوم الإنسانية. لأن الموضوع هذه المرة، هو كائن يتميز بالوعي والإرادة والقدرة على الاختيار، مما يجعل العلمية تتميز في هذا المجال بالاحتمال والترجيح، نتيجة عدة قضايا تتمثل في العلاقة غير الواضحة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. إضافة إلى صعوبة التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية. وأخيرا علاقة العلوم ألإنسانية بالعلوم الحقة على مستوى المنهج. وهذا ما يمكن طرحه من خلال الإشكالات التالية
ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالموضوع في العلوم الإنسانية؟
هل العلوم الإنسانية قادرة على فهم وتفسير والتنبؤ بالظواهر؟
ما الدور الذي لعبته العلوم الحقة في العلوم الإنسانية؟
أولا: موضعة العلوم الإنسانية
أ– عوائق موضعة الظاهرة الإنسانية
إن العلوم الإنسانية – في نظر جان بياجي – لها وضعية أكثر تعقيدا مقارنة بالعلوم التجريبية، لأن الذات مُلاحِظة لذاتها ولغيرها، ومجربة على نفسها وعلى غيرها، لهذا تـُخْلَق وضعية التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية، مقارنة بالعلوم الطبيعية، حيث أصبح من المعتاد الفصل بين الذات والموضوع. إن عملية إزاحة تمركز الذات حول ذاتها، والتي هي عملية ضرورية لتحقيق الموضوعية، تكون أكثر صعوبة في الحالة التي يكون فيها الموضوع هو الذات، نظرا لسببين وهما
إن الحد الفاصل بين الذات المتمركزة حول ذاتها، والذات العارفة يكون أقل وضوحا عندما تكون أنا الملاحظ جزء من الظاهرة التي يجب عليه أن يلاحظها ويدرسها من الخارج
إن الملاحظ يكون أكثر ميلا للاعتقاد في معرفته الحدسية بالوقائع لانـخراطه في هذه الأخيرة
هكذا فالعالِم – في نظر بياجي – لا يكون أبدا معزولا، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي وإيديولوجي
ب– مفارقة علاقة الذات بالموضوع
إن كل باحث هو عضو ينتمي لجماعة كبيرة أو صغيرة (سواء كانت طبقة اجتماعية، أو مهنة، أو أمة…)، في نظر فرانسوا بستيان، وبالتالي يكون منخرطا بالضرورة في صراعات صريحة أو ضمنية من أجل الاعتراف، والحظوة، والسلطة، وهي صراعات تحرك المعتقدات والمثل…الخ. وتتمثل الصعوبة لدى الباحث الاجتماعي في كونه لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل جهد علمي (الموضوعية). لذلك نجد كل مجهودات مؤسسي العلوم الاجتماعية قامت على مبدأ تباعد الباحث عن جماعته، حيث دعا « دوركايم » إلى اعتبار الوقائع الاجتماعية أشياء، وكذلك توصية « ماكس فيبر » باحترام مبدأ الحياد القيمي
ثانيا: التفسير والفهم في العلوم الإنسانية
أ- التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية
إن العلوم الدقيقة- حسب كلود- ليفي ستروس- تقدمت بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ، حيث يمكن لهذه العلوم أن تفسر ظواهر لم تتنبأ بها، كما فعلت الداروينية، كما يمكنها أن تتنبأ بظواهر لا تكون قادرة على تفسيرها، كما يحدث في علم الأرصاد الجوية. أما العلوم الإنسانية، فتجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، فهي لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا، ولا تتنبأ بيقين تام، لقد أكتفت العلوم الإنسانية، حتى حدود اليوم، بتفسيرات فضفاضة وتقريبية تنقصها الدقة، ورغم أنها مهيأة، لأن تمارس التنبؤ وتطوره، فإن الخطأ كان دائما حليف تنبؤاتها
ومع ذلك فإن العلوم الإنسانية- حسب ستروس- يمكن أن تقدم للذين يمارسونها انطلاقا من نتائجها، شيئا وسيطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة، لكن من غير الفصل بين التفسير والفهم
ب- الفهم في العلوم الإنسانية
إذا كنا نفسر الطبيعة، باعتبارها ظواهر معزولة وخارجية في العلوم الفيزيائية والطبيعية- في نظر دلتاي- فإننا نفهم الإنسان في علم النفس، من خلال فهم حياته النفسية، فعمليات الاكتساب، ومختلف الوظائف العقلية والنفسية وعناصرها تجتمع وتكون كلا يعطى لنا عن طريق التجربة الداخلية. فالكل المعيش هو  الأساسي، ولا يتجزأ إلى أجزاء إلا بعد ذلك. وينتج عن هذا أن المناهج التي ندرس بها الحياة النفسية والتاريخ والمجتمع تختلف عن المناهج التي تقود إلى معرفة الطبيعة
إن العلوم الإنسانية الحقيقية- حسب دلتاي- هي التي تبني منهجها بنفسها، انطلاقا من موضوعها
ثالثا: نموذجية العلوم التجريبية
أ- خصوصية المنهج في العلوم الإنسانية
تعتبر العلوم الإنسانية مقارنة بالعلوم الطبيعية- في نظر كل من طولرا/ وارنيي- حديثة النشأة، أما نتائجها فهي قليلة وغير أكيدة لأن الواقع الحي الذي تحاول الإحاطة به (المجتمعات، العقليات، السلوكيات…)، هو أكثر غنى وأقل انتظاما من الظواهر الطبيعية، وبالتالي فإن استخدام العقل في هذه العلوم مطالب بأن يكون حذرا، كما أن الروح العلمية مطالبة بأن تكون أكثر تطورا من مثيلتها في العلوم الطبيعية، حيث تكون التجربة محكا مباشرا وحاسما
ويفترض إدراك الموضوع- حسب طولرا/ وارنيي- أن تكون الذات مستعدة لفهم ما يخالفها ويعتبر آخرها. وفي هذه الحالة، تتمثل الروح العلمية في القدرة على استيعاب التناقض والقدرة على مواجهة ما هو غريب ومزعج لكل تلقائية، أي اللقاء الدائم مع الواقع
ب- خداع النظرة العلمية
إن كل ما أعرفه عن العالَم، ولو كان مصدره العلم- يقول موريس ميرلوبونتي- أعرفه انطلاقا من وجهة نظر خاصة بي، أو أعرفه من خلال تجربتي الخاصة التي بدونها لن تعني رموز العلم أي شيء، لأن العلم يُبنى بكامله على العالم المعيش (أي التجربة الذاتية للأنا) وانطلاقا منه. فأنا الذي أوجد من أجلي أنا، وأنا الوحيد الذي يوجد وجودا متفردا. لا يوجد أحد مكاني ولا أوجد في مكان أحد
وهكذا فإن وجهة النظر العلمية التي أكون بمقتضاها مجرد لحظة من لحظات العالم هي دائما وجهة نظر خادعة، لأنها وجهة نظر يكون العالم حولي حسبها موضوعا، ولا يوجد لأجلي. إن الرجوع إلى الأشياء ذاتها هو الرجوع إلى العالم المعيش قبل أن يكون موضوع معرفة، وهكذا فكل معرفة للإنسان- حسب ميرلوبونتي- هي معرفة ذاتية، لأن العلم يفترض وجود نظرة موضوعية لذات تتعالى عن كل الذوات، هي في الواقع غير موجودة
استنتاجات عامة
إن أكثر المعارف فائدة وأقلها تقدما، من كل المعارف الإنسانية، في الآن نفسه، هي تلك المتعلقة بالإنسان- حسب ج. ج. روسو- إنها أكثر فائدة لأنها تدرس الكائن الوحيد في هذا الكون الذي يملك عقلا ووعيا. وأقلها تقدما لأن زمن نشأتها جاء متأخرا جدا. وهي التي تشكل العلوم الإنسانية
إن العلوم الإنسانية هي علوم مأزومة، لأنها ولدت بأزمتها التي تتمثل، من جهة، في تداخل الذات والموضوع، واضطراب العلاقة بينهما. كما تتمثل، من جهة أخرى، في استعارة مناهج العلوم التجريبية، بدل إبداع مناهج تتواءم وطبيعة موضوعها الذي يتميز بالتعقيد




مجزوءة السياسة



الطرح الإشكالي
إن انتقال الإنسان من مرحلة الطبيعة والتوحش والهمجية، إلى مرحلة المجتمع والتحضر وإنتاج الثقافة، دفع الأفراد إلى إيجاد جهاز يدبر هذا التعايش بينهم ويضمن استمراره. هذا الجهاز هو الدولة. وهو جهاز أثار حوله عدة نقاشات فلسفية تمحورت حول تعدد وتنوع الغايات الني من أجلها وجد هذا الجهاز، والتي أعطته مشروعية التواجد. إضافة إلى تنوع طبيعة السياسة التي تمارسها الدولة والتي قد تتخذ شكل حرب وقتال، كما قد تتخذ شكل توافق واعتدال. وأخيرا المفارقة التي تميز العلاقة بين غاية الدولة التي تتمثل في تجسيد قيمة الحق، ووسيلة هذا التجسيد التي تتخذ شكلا عنيفا. وهذا ما طرح علينا معالجة الأسئلة الموالية
لماذا ظهرت الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟
ما هي المظاهر التي تتخذها ممارسة السلطة السياسية؟
هل الدولة جهاز لتجسيد الحق أم العنف؟
أولا: مشروعية الدولة وغاياتها
أ- غاية الدولة: الحرية والأمن
إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة – في نظر باروخ اسبينوزا – بل إتاحة الفرصة لأجسام الأفراد وعقولهم بأن تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام ودون خوف. بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا. لأن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يفعل ما يشاء، وليس حقه في التفكير والتعبير، أي أن يحتفظ قدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة، وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير
إذن فالغاية الحقيقية من قيام الدولة – حسب اسبينوزا – هي حرية التفكير، وضمان الأمن للأفراد، ومن يسلك ضد مشيئة السلطة العليا يلحق الضرر بالدولة
ب- الدولة تحقق للروح المطلقة
إن الدولة – في نظر فريديريك هيغل – هي التحقق الفعلي للروح المطلقة، وهي فكرة عقلانية موضوعية وكونية ذات طابع أخلاقي. كما أنها تمثل إرادة جوهرية متجلية، وبينة لذاتها، تعرف ذاتها وتفكر فيها. إن الدولة بوصفها تحققا للإرادة الجوهرية، هي غاية في ذاتها، لا يتوقف دورها ووظيفتها على الحماية والأمن، ولا يختزل في فرض السيادة والإخضاع، بل يمتد – في نظر هيغل – إلى نشر القيم الروحية والأخلاقية، والمبادئ العقلية الكونية، وهي قيم ومبادئ أساسية بالنسبة للمجتمع حتى يتمكن الإنسان من الاعتراف بإنسانيته
ثانيا: طبيعة السلطة السياسية
أ- السياسة صراع
ينبغي على الأمير – حسب نيقولاي ماكيافيلي – أن يستخدم كل الوسائل المتاحة للحفاظ على السلطة، وذلك بالاعتماد على القوانين إن كانت كافية، وعلى القوة إن اضطر إلى ذلك. أن يكون مستقيما في سلوكه، حافظا لعهده، أمينا في أعماله، إن حافظ ذلك على ملكه. وأن لا يفي بوعد سيضيع مصلحته. وأن يلتجئ إلى المكر والخداع والتمويه للبقاء على سلطته. مع القدرة على إخفاء هذه الصفات على الناس البسطاء، لأن من يمارس الخداع سيجد دائما بين الناس من يقبل إن ينخدع بسهولة
يجب على الأمير – في نظر ماكيافيلي – أن يستخدم كل الوسائل الممكنة للحفاظ على السلطة، سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة
ب- السياسة اعتدال
إن حُسْنَ المُلك لدى السلطان – في نظر عبد الرحمن بن خلدون – يعود إلى الاعتدال. فإن كان السلطان قاهرا باطشا بالعقوبات شمل الرعية الخوف والذل، والتجئوا إلى الكذب والمكر والخديعة. وإن كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم اسْتَناموا إليه ولاذوا به. إن الذكاء عيب في صاحب السياسة، لأنه إفراط في الفكر، يكلف الرعية فوق طاقتهم لنُفوذ نظره، كما أن البلادة إفراط في الجمود، والطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية. والمحمود – حسب ابن خلدون – هو التوسط، كما في الكرم مع التبذير والبخل
ثالثا: الدولة بين العنف والحق
أ- العنف المادي المشروع
تقوم كل دولة – حسب ماكس فيبر – على العنف المادي باعتباره الوسيلة الناجعة لممارسة السلطة، وهكذا فالدولة المعاصرة هي تجمع بشري يطالب، في حدود مجال ترابي معين بحقه في احتكار استخدام العنف المادي المشروع، وذلك لفائدته. إن ما يميز عصرنا، هو أنه لا توجد جماعة سياسية، ولا يوجد فرد، يكون من حقهما استخدام العنف، إلا شريطة موافقة الدولة على ذلك.
وهكذا تعتبر الدولة – في نظر فيبر – هي المصدر الوحيد « للحق » في ممارسة العنف المادي
ب- دولة الحق والقانون
إن دولة الحق والقانون تؤدي إلى ممارسة معقلنة للسلطة – في نظر جاكلين روس – وهي دولة تتخذ ثلاث ملامح وهي
الحق: الذي يتمثل في احترام الحريات الفردية والجماعية التي تتمسك بالكرامة الإنسانية ضد كل أنواع العنف والقوة والتخويف
القانون: أي أن الكل يخضع لقانون وضعي تابع للمبدأ الأخلاقي، مع إمكانية حمايته من لدن قاض
فصل السّلط: (السلطة التنفيذية، التشريعية، القضائية)، وهي الآلية التي تحمي الدولة من السقوط في يد الاستبداد
إن دولة الحق والقانون ليست صيغة جامدة، وإنما هي – حسب روس – عملية بناء وإبداع دائم للحرية
استنتاجات عامة
لقد أوجد المجتمع جهاز الدولة استجابة لمجموعة من الحاجيات، وتحقيقا للكثير من الغايات وعلى رأسها: الحفاظ على الأمن، وضمان ممارسة الحريات الفردية والجماعية، والتصدي للأخطار الخارجية، ومعاقبة التجاوزات في الداخل، وكذلك السهر على تربية وتكوين المواطن من خلال تعليم المبادئ العقلية، ونشر القيم الأخلاقية. ومن هذه الأهداف والغايات تستمد الدولة مشروعيتها
إن طبيعة ممارسة السلطة السياسية، متعددة ومتنوعة، فقد تتخذ شكل قتال وصراع إذا كانت طبيعة الحكم استبدادية تتميز بالانفراد في اتخاذ القرار. كما يمكن أن تتخذ شكل توافق واعتدال في إطار الممارسة الديمقراطية التي تشرك الجميع في التقرير والتسيير
تتخذ الدولة المعاصرة وجهان يبدوان متناقضان، ولكنهما متكاملان في نفس الآن. فمن جهة تعتبر هي الضامن الأساسي للحق متمثلا في الحريات، وتطبيق مبدأ العدل والمساواة، ومن جهة ثانية تستعمل العنف المادي المشروع لضمان ممارسة هذه الحريات، والسهر على احترام القانون.لكن إذا كانت الشرعية صفة أخلاقية، فمتى كانت للعنف هذه شرعية؟

مفهوم العنف


الطرح الإشكالي
إن كانت مظاهر العنف تبدو لنا واضحة وجلية في جرائم القتل، الحروب، الإبادة العرقية، الإرهاب، العدوان… من خلال الصورة وتقنيات التواصل والإعلام، فما إن يبدأ المرء في التفكير والتأمل في طبيعة السلوكات العنيفة، حتى يكتنف هذا الموضوع التعقد والغموض، من حيث تعدد وتنوع أشكال هذا العنف، من عنف مادي ملموس، إلى عنف آخر رمزي غير ظاهر. إضافة إلى الدور الذي لعبه في التاريخ وتجليات هذا الدور. وأخيرا العلاقة المضطربة التي تربطه بمسألة المشروعية. وهو ما يمكن التعبير عنه من خلال هذه الأسئلة
ما هي أشكال العنف إذن؟
كيف يعمل العنف على رسم مسارات التاريخ الإنساني؟
هل العنف فعل مشروع؟ أم أنه يفتقد لأي مشروعية؟
أولا: أشكال العنف
أ– العنف المادي
إن الحرب كأعلى شكل من أشكال العنف المادي – في نظر كارل فون كلوزفيش – هي مجموعة من المعارك تتكون من عدد لا محدود من الاقتتال الفردي الذي اتسع لكي يشكل الحرب. إن كل واحد، أثناء الصراع، يحاول بواسطة القوة الجسمانية، أن يسقط الآخر ويحطم مقاومته. فالحرب فعل من أفعال القوة، نحاول بواسطته إرغام الخصم على الخضوع لإرادتنا، ولأجل أن تتغلب قوة على قوة، فإنها تستعمل كل ما توفره لها العلوم والصناعات من وسائل
إن القوة الجسمية هي مجرد وسيلة، أما غاية العنف – كما يرى كلوزفيش – فهي إرغام الخصم على الخضوع
ب– العنف الرمزي
يقصد بالعنف الرمزي كل أشكال العنف غير الفيزيائي، في نظر بيير بورديو، أي أشكال العنف القائمة على إلحاق الأذى عبر الكلام أو اللغة أو التربية أو العنف الذهني. وهو درجات، حيث يقوم معظمه على تكييف رد فعل المتلقي ليتقبل العنف اللطيف، بل ويعتبره أمرا عاديا، والمثال الأوضح للعنف الرمزي هو الإيديولوجيا والأفكار المتداولة، فانطلاقا من كوننا نولد في عالم اجتماعي، فإننا نتقبل عددا من البديهيات والمسلمات التي تفرض نفسها علينا بتلقائية وسهولة و لا تكاد تتطلب تلقينا
هكذا يمكن أن يحقق العنف الرمزي – حسب بورديو – نتائج أحسن مما يحقق العنف المادي
ثانيا: العنف في التاريخ
أ– الصراع كمحرك للتاريخ
لم يكن تاريخ أي مجتمع، إلى يومنا هذا، في تصور كارل ماركس، إلا تاريخ الصراع بين الطبقات: الأحرار والعبيد، الإقطاعيون والأقنان… وبعبارة أخرى المضطهِدون والمضطهَدون، الذين كانوا دوما في حالة تعارض ومواجهة دائمة، قامت بينهم حروبا لا تتوقف، معلَنة أحيانا، وخفية أحيانا أخرى، حروبا كانت تنتهي دوما إما بتغيير جذري للمجتمع برمته، أو بتحطيم الطبقتين المتصارعتين معا
إن المجتمع البورجوازي الحديث، لم يقض على الصراع بين الطبقات حسب ماركس، وإنما أحل طبقات جديدة وهي البورجوازية والبروليتاريا، كما أحل ظروفا جديدة للاضطهاد، وأشكالا جديدة من الصراع
ب– العنف الاقتصادي
يلعب العنف دورا بارزا في التاريخ، حسب فريديريك إنجلس، وذلك في ارتباط بالتطور الاقتصادي. فيمكن للعنف السياسي أن يعمل لأجل التطور الاقتصادي فترتفع سرعته. كما يمكن أن يعمل ضد هذا التطور، وفي هذه الحالة فإنه يستسلم تدريجيا للتطور الاقتصادي، مع بعض الاستثناءات، ففي هذه الحالات ينتهي فيها الصراع إلى قلب النظام
إن كل عنف سياسي – في نظر إنجلس – يقوم أصلا على وظيفة اقتصادية ذات طبيعة اجتماعية
ثالثا: العنف والمشروعية
أ– العنف المشروع
يمثل العنف مشكلة للفلسفة، بالنسبة لإريك فايل، أما الفلسفة فهي لا تمثل أي مشكلة للعنف الذي يزيح الفيلسوف عن طريقه كلما وجده يعوق مسيرته الخالية من أي اتجاه. إن العنف ليس له معنى إلا بالنسبة إلى الفلسفة، التي هي رفض للعنف، وإذا كان من السهل أن نجد فلسفة تأمر باستعمال العنف، لأنها تبينت أن عليها أن تحارب العنف. لكن هذا العنف الذي تدعو إليه ليس سوى وسيلة ضرورية لخلق حالة اللاعنف، حسب فايل، وذلك بواسطة العقل وفكرة التماسك
ب– لا مشروعية للعنف
إن السمة الأساسية للعنف – في نظر غاندي – هي أنه يجب أن تكون وراء الفكر والكلام والفعل، نية عنيفة، أي رغبة في إلحاق الأذى والألم بذلك الذي يعتبر خصما، أما اللاعنف، فهو الغياب التام للإرادة السيئة، بل هو إرادة طيبة تجاه كل ما يحيا، إنه حب متكامل. إن اللاعنف ليس تخليا عن كل صراع حقيقي ضد الشر، بل هو مناهض للشر بكفاح وصراع فعال يتجاوز حدود القصاص، إلى معارضة ذهنية وأخلاقية. وهكذا فالعنف – حسب غاندي – لا مشروعية له
استنتاجات عامة
يمكن تقسيم الحيوانات على مستوى التغذية إلى حيوانات عاشبة وهي مسالمة بطبعها، وحيوانات لاحمة وهي حيوانات عدوانية، لأنها لا تستطيع إن تضمن بقاءها إلا على أساس الصيد وقتل الكائنات الأخرى. وما دام الإنسان مزدوج الطبيعة: عاشب ولاحم في الآن نفسه، فإن الجانب اللاحم فيه يجعله كائنا عنيفا بالطبيعة
إن العنف يمارس على مستويين
العنف المادي الملموس: والذي يتمظهر في العنف الجسدي، والعنف السياسي كالانتفاضات والثورات… والعنف الاجتماعي كالعنف ضد المرأة، والعنف الاقتصادي كالاستغلال…
العنف المعنوي الرمزي: والذي يتجلى في العنف اللغوي كالسب والشتم، والعنف التربوي مجسدا في بعض مظاهر العادات والتقاليد، وبعض المقررات الدراسية
إن العنف لا مشروعية له حتى وإن استعمل لصالح قضايا عادلة، أو للقضاء على العنف ذاته، لأن العنف لا يمكن أن يولّد إلا العنف. إن العنف لا يمكن أن يحارب إلا بنقيضه وهو اللاعنف

علمية العلوم الإنسانية


الطرح الإشكالي
على أنقاض مفهوم الحق الإلهي الذي ساد بأوربا في القرون الوسطى- وهو حق يستمد مشروعيتها من النصوص الدينية المقدسة- بنى فلاسفة الأنوار مفهوم الحق على أساس بشري، مصدره الإنسان. إلا أنهم اختلفوا حول أساس هذا الحق. فبينما ذهب البعض منهم إلى الأساس الطبيعي الذي يرتكز على القوة الجسمية، ذهب البعض الآخر إلى الأساس الثقافي المبني على التعاقد والاتفاق. إضافة إلى علاقة الحق بالحرية من جهة، وبالعدالة من جهة ثانية. هذه العدالة التي تكون منصفة عندما تلتزم بمبدأ المساواة، لكنها تكون منصفة كذلك حين تراعي التمايزات (اللامساواة) بين الأشخاص. وهذا يستدعي طرح الأسئلة التالية
هل الحق ينبني على أساس طبيعي أم وضعي؟
هل الحق تجسيد للحرية أم للعدل؟
هل العدالة تتحقق عندما تراعي مبدأ المساواة أم اللامساواة؟
أولا: الحق بين الطبيعي والوضعي
أ- الحق الطبيعي
إن الحق الطبيعي – في نظر توماس هوبس – هو أن لكل فرد، في حالة الطبيعة، الحق في كل شيء، بل وحتى حق البعض في أجساد البعض الآخر، فلا يوجد شيء لا يمكن استخدامه ضد الأعداء، مادام يساعد على الحفاظ على الحياة. وهكذا فالحالة الطبيعية هي حالة حرب الكل ضد الكل. مما سيدفع بالإنسان إلى الانتقال لحالة المجتمع المدني للبحث عن السلم والطمأنينة، حيث يسود الحق الوضعي، وهو أن نقبل عندما يقبل الآخرون أيضا التخلي عن حق التصرف في كل شيء، بما يسمح بالسلم والحفاظ على الذات، وأن نكتفي بنفس القدر من الحرية الذي يكتفي به الآخرون
ب- الحق الوضعي
إن انتقال الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية، قد أحدث في الإنسان تغيرا كبيرا – في نظر ج. ج. روسو – فبعد أن كان يخضع في حالة الطبيعة لغرائزه الجسمانية والفطرية، وينجرف وراء الشهوة، نمت قواه العقلية، في حالة المدنية، واتسعت أفكاره، ونبلت عواطفه، حيث جعلت منه كائنا ذكيا. وهكذا عوض الحق الطبيعي ظهر لديه العقد الاجتماعي الذي يتميز بالحرية المدنية التي تحدها الإرادة العامة، وهي حرية تعطيه الحق في ملكية جميع ما يقتنيه، وهكذا يخضع الإنسان لقانون نابع من تواضع جماعي
فالطاعة للقانون الذي فرضناه على أنفسنا هي « حرية »، في نظر روسو
ثانيا: العدالة باعتبارها حقا
أ- الحق والديمقراطية
إن الغاية التي ترمي إليها الديمقراطية – في نظر باروخ اسبينوزا – هي أن يعيش الناس في وئام وسلام قدر الإمكان في حدود العقل. والقانون المدني هو الذي يضمن حق الفرد في المحافظة على حالته، كما حددتها وضمنتها له مراسيم السلطة العليا (الدولة). إن الحق كعدالة هو استعداد دائم للفرد لأن يعطي كل ذي حق ما يستحقه طبقا للقانون المدني، وتسمى العدالة كذلك بالإنصاف، لأن من واجب القضاة، ألا يفرقوا بين الأشخاص، بل أن ينظروا إليهم على قدم المساواة، ويحافظوا بقدر متساو على حق كل منهم، حسب اسبينوزا
ب- الحق والمساواة
إن الحق – في نظر ألان – هو المساواة. فبمجرد ما يفتقر عقد ما للتساوي، نشكك في صلاحيته، وفي كونه يراعي حقوق كل الأطراف. ففي حالات البيع والشراء مثلا، لن يعتقد أحد أن السعر الذي تم تحديده، بعد المساومة، وباتفاق مشترك بين البائع والمشتري، هو سعر عادل في حالة ما إذا كان البائع مخمورا، والمشتري واعيا، أو إذا كان البائع جاهلا بقيمة سلعة ما يبيعه (كتابا نادرا، أو لوحة رسام مشهور…)، في حين أن المشتري على علم بقيمة تلك السلعة..لأنه لم يكن هناك تساو وتكافؤ بين الطرفين
إن الحق ضد اللامساواة، والقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية، سواء كانوا رجالا أو نساء أو أطفالا، أو مرضى أو جهّالا
ثالثا: العدالة بين الإنصاف والمساواة
أ- العدالة كتجسيد للمساواة
إن العدالة – في نظر أرسطو – تعني المساواة. وهي بذلك تسمى إنصافا، وهكذا نكون أمام نوعين من العدالة
عدالة توزيعية: وتعني توزيع خيرات، وثروات المجتمع على أفراده حسب طاقاتهم وأعمالهم
عدالة تعويضية: وتتمثل في تنظيم المعاملات بين أفراد المجتمع على أساس الأعراف والقوانين. وهدفها هو تصحيح السلوك الخارج عما تحدده القوانين. فهي عدالة تعاقب المجرم، وتعوض أولئك الذين يذهبون ضحايا تطبيق القانون
ب- الإنصاف واللامساواة
إن مطلب المساواة المطلقة – حسب ماكس شيلر – هو مطلب الضعفاء والفاشلين، صادر عن رغبتهم في إنزال العظماء والناجحين إلى مستوى الأشخاص العاديين، أو الذين هم في أسفل درجات السلم. فما من أحد ينشد المساواة، حينما يشعر بأنه يمتلك قوة أو نعمة تتيح له أن يتفوق على الآخرين. أما الذي يخشى الخسارة فهو وحده ينشد العدالة والمساواة العامة
إن مطلب المساواة المطلقة – في نظر شيلر – يصدر بالتأكيد عن شعور بالكراهية والحقد، وبالتالي فإنه مطلب جائر
استنتاجات عامة
إن حالة الطبيعة، ليست فرضية علمية الغاية من ورائها تحديد مراحل تاريخ البشرية. إنها فرضية متخيلة ذات طابع سياسي، سعى من خلالها فلاسفة الأنوار إما إلى تكريس الوضع السياسي القائم في أيامهم، أو تغييره والدعوة إلى التمرد عليه
إن العدالة لا تتنافى وبروز أشكال مختلفة من التفاوتات الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية… بل إن العدالة المنصفة هي التي تراعي اختلافات الناس وتمايز طباعهم، وقدراتهم، واستعداداتهم، ومؤهلاتهم. فالناس يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا إيجابيا وخلاقا
إن المساواة ليست دائما تجسيدا للعدالة، إن المساواة قد تتحول إلى ظلم وجور في حق بعض الفئات كالمرأة، والطفل، وذوي الاحتياجات الخاصة… لذا ينبغي تبني مفهوم التمييز الإيجابي


التالي
هذا أحدث موضوع

baclibre doross